الصبر وانتظار الفرج في مدرسة الامام العسكري

تميزت فترة إمامة الحسن العسكري gالتي تقارب الست سنوات، ممتدة من 254 هـ الى 260 هـ بعدة أمور:

منها: كثرة المكاتبات بين الشيعة الخواص والموالين، وبين الإمام g، يبين فيها الإمام آراءه ومواقفه أزاء بعض القضايا، ويجيبهم فيها عن أسئلتهم واستفساراتهم، وكانت غالبا تخط بيد الإمام g.

ومنها: قلة ما ينقل من الروايات مشافهة عن الإمام g. وهذا فيه دلالة واضحة على احتجاب الإمام gعن مواليه، وتقليل الالتقاء بهم لضرورة تهيئة النفوس، والعقول، لتقبل فكرة الغيبة التي يحتجب بها الإمام نهائيا عن شيعته ومواليه، وهذا خلاف ما كان مألوفا لديهم، لأنهم كانوا يألفون وجود الإمام بينهم، يقضي حوائجهم، ويجيب أسئلتهم، ويهتدون به مباشرة حتى فيما اذا كان مسجونا في سجون الظالمين أو محتجبا من قبل الظلمة.

لذا اختار الإمام العسكري هذه الطريقة – المكاتبة –  لتهيأ اجواء تقبل الغيبة من ناحية، وملأ فراغ عدم ارتباطهم به مباشرة من ناحية أخرى.

وأريد هنا: أن أعرض لكم واحدة من تلك المكاتبات خطّها الإمام العسكريgبيده لأحد أعلام مذهبنا، وكبار علمائنا المتقدمين، وهو علي بن الحسين بن بأبويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق الوالد.

يقول الإمام gفي هذه المكاتبة: (عليك بالصبر وانتظار الفرج،  قال النبيJ: أفضل اعمال أمتي الصبر وانتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي Jيملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا، فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي، وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عبادته والعاقبة للمتقين)([1]).

فإن الإمام gيرسم الخطوط العريضة لما يجب أن يتحلّى به المسلم في عصر الغيبة، ليصل الى أعلى مستويات الوعي، ويؤكد في عبارته المباركة على جملة من المفاهيم سنتعرض الى بيان بعضها بأذن الله تعالى.

المفهوم الأول: الصبر بمعنى تحمّل المشاق والعقبات والارتفاع فوق مستوى الآلام التي تنجم عن فعل الظالمين خلال عصر الغيبة، وهذا ما عايشناه في فترة النظام

اولا: النصوص والآيات التي جاءت عن الإمام العسكري gقبل ولادة الإمام المهدي gتبشيرا بولادته.

منها: جواب الإمام العسكري gلمن سأله عن الإمام الحجة من بعده فأجابه g: إن الإمام وحجة الله من بعدي ابني وسميّ رسول الله Jوكنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه، فسأله ممّن هو؟ فقال: من ابنة قيصر ملك الروم إلَّا إنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر.

ثانيا: الإشهاد على ولادة الإمام المهدي gبالرغم من الظروف الصعبة والكتمان الذي كان يحيط قضية الإمام gوانتشار العيون والجواسيس.

مع ذلك كله أمر الإمام العسكري gعمته السيدة العلوية الطاهرة حكيمة بنت الإمام الجواد gوأخت الإمام الهادي gبتولي أمر السيدة نرجس أم الإمام المهدي gفي ساعة الولادة، صرحت بمشاهدة المهدي بعد مولده.

ثالثا: الإخبار بولادة الإمام المهدي gومداولة الخبر بين الشيعة بشكل خاص من دون رؤية الإمام g.

من قبيل ما رواه أحمد ابن اسحاق عن العسكري gأنه قال: (الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله Jخَلقا وخُلقا يحفظه الله في غيبته ثم يظهره الله في الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت ظلما وجورا)([1]).

رابعا: بالإشهاد الخاص والعام بعد الولادة ورؤية شخص المهدي g.

فعن أبي غانم الخادم انه ولد لأبي محمد ولد فسمّاه محمد فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال: (هذا صاحبكم من بعدي، وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتد اليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جورا وظلماً فملأها قسطا وعدلا)([2]).

وفي رواية أخرى (هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم أطيعوه، ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما أنكم لا ترونه بعد يومكم هذا)([3])قالوا فخرجنا من عنده فما مضت الا أيام قلائل حتى مضى أبو محمد g.

خامسا: التمهيد لرؤية الإمام المهدي gخلال مدة خمس سنوات من قبل بعض خواص الشيعة، والارتباط به عن كثب،وتكليفه مسؤولية الإجابة على أسئلة شيعته

المختلفة، واخبارهم عمّا في ضميرهم، وهو في المهد، أو في دور الصبا من دون أن يتلكأ في ذلك، وهو خير دليل على إمامته، وإنه هو حجة الله المولود المنتظر.

ومن ذلك، ما حدّث به أحمد ابن اسحاق حين سأل الإمام العسكري gعن علامة يطمئن اليها قلبه حول إمامة المهديgحين أراه إياه، وقد كان غلاماً كان وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاثة سنين، فنطق الغلام بلسان عربي فصيح فقال: (أنا بقية الله على أرضه والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثرا بعد عيّن يا أحمد ابن اسحاق)([1])

سادسا: التخطيط للارتباط بالإمام المهدي في زمن غيبته الصغرى بواسطة وكلاء الإمام العسكري gالذين أصبحوا فيما بعد وكلاء للإمام المهدي gبنفس الأسلوب الذي كان معلوما لدى الشيعة حيث كانوا قد اعتادوا عليه في حياة الإمام العسكري g.

فقد حدّث محمد ابن اسماعيل وعلي ابن عبدالله الحسنيان أنهما دخلا على ابي محمد الحسن gبسرّ من رأى وبين يديه جماعة من اوليائه وشيعته حتى دخل عليه بدر خادمه فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا في اليمن…. ثم ساق حديثا طويلاً حتى انتهى الحديث الى أن الحسن g  قال لبدر فامض فأتنا بعثمان بن سعيد العمري  فما لبثنا الا يسيرا الا دخل علينا عثمان فقال له سيدنا ابو محمد الحسن g: امضي يا عثمان فإنك الوكيل والثقة والمأمون على مال الله واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال ثم ساق الحديث الى أن قالها: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيدنا والله إن عثمان لمن خيار شيعتك ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وإنه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى.

قال: (نعم واشهدوا عليّ أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأن ابنه محمد وكيل ابني مهديكم) ([2])

سابعا: تمثلت هذه الخطوة المباركة من الإمام الحسن العسكري gفي النصوص التي هيأت أتباع أهل البيت D  لاستقبال الوضع الجديد الذي سيحل بهم عند غيبة المهدي gلئلا يفاجأوا بأمور لا يعرفون كيفية التعامل معها مثل ما يحصل بعد الغيبة من الحيرة، والاختلاف بين الشيعة، وما ينبغي لهم من الصبر والانتظار للفرج، والثبات على الإيمان، والدعاء للإمام المهدي gلتعجيل فرجه الشريف

([1])المصدر السابق: ج 1، ص 412، ح 1

([2])كتاب الغيبة، الشيخ الطوسي: 215

([1])كمال الدين وتمام النعمة: ج 1، ص 437، ح 7

([2])بحار الأنوار، ج 51، ص 5

([3])كمال الدين واتمام النعمة: ج 1، ص 463، ح 2

([1])مناقب آل أبي طالب: ج 3، ص 527