سرُّ الجاذبيةِ في كلماتِ نهجِ البلاغة
لا يختلف اثنان على قوة الجاذبية التي تختزنها كلماتُ أمير المؤمنين gفي نِهج البلاغةِ سواءً الخطب، أو الرسائل، أو الكلمات القِصار.
وهذا شعورُ كلِّ مَن قرأ شيئاً مِن نهج البلاغة، سواءً كان مِن عامّةِ النّاس، أو من علمائِهم او أدباءهم، من المسلمين، بل سائر الأديان دونَ استثناء
نقل السيد الشريف الرضّي (H) في النهج، قال: (أنّه رُوِي في الخبر أنّه لمّا خطب أمير المؤمنين gفي هذه الخطبة اقشعرتْ له الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب)([1]).
فالكل يتحدث عن جاذبية هذه الكلمات في النهج، تشدهم اليه، وتجعلهم يتأثرون به، ويُأسرون بأجوائه وكلماته، ويتذوقون لذيذ معانيه ومفرداته، تلك الجاذبية، هي التي دفعت الكثير من العلماء، والباحثين، لتسليط الضوء على كتاب نهج البلاغة بالشرح، والتفسير، وكتابة المقالات، وإعداد الدراسات والبحوث، والرسائل قديما وحديثا، بل الاستغراق في مختلف جوانب شخصية الإمام علي أمير المؤمنين gمن خلاله.
وإن أردنا ان نشير الى حقيقة مكامن تلك الجاذبية في نهج البلاغة، سنقف متحيرين وعاجزين، عن أدراك السر الحقيقي الذي تُملَك به القلوب، وتؤسر به النفوس، بمجرد الاستماع أو قراءة تلك الكلمات المباركة.
ولكن… نحاول أن نتكلم على مستوى الاحتمال والاطروحة بمقدار ما نفهم، وبمقدار ما يُرشدنا بها العلم، وكلام الأعلام، لتوضيح بعض مكامن تلك الجاذبية التي مَلَكَها النهجُ المبارك، فنقول وعلى الله التسديد والتوكل:
من ضمن مكامن وأسرار الجاذبية في النهج المبارك ما يلي:
1: أن الإمام علي بن ابي طالب أمير المؤمنين g، هو تلميذ مدرسة القرآن الكريم، وتلميذ مدرسة سيد المرسلين النبي الأمين محمد J، فلا شك أنّه استوعب كلامهما وتعاليمهما حتى صار ناطقاً بهما، و نائباً عنهما، فهو القرآن الناطق وهو وصي رسول الله، وخليفته، والناطق، والمُبلغ عنه بعد رحيله، لذا مَلَكَ جاذبيةَ كلمات القرآن الكريم، وجاذبية كلام رسول الله J، والمُتتبع لكلماته gفي نهج البلاغة، يرى أنه يمزج كلامه المبارك بتعاليم القرآن الكريم، ويستشهد بآيات الله تعالى، ويستنير بكلمات وهدى وسُنّة النبي J، ويقتفي اسلوبه مع الناس
عليٌّ gتلميذ هاتين المدرستين لذا مَلَكَ جاذبية القران، وجاذبية كلام رسول الله J.
قال gواصفاً القران: (وإنّ القرانَ ظاهره أنيق، وباطنه عميق لا تُفنى عجائِبُه، ولا تنقضي غرائبُه، ولا تُكشفُ الظلماتُ إلّا به…)([2])
وفي خطبة أخرى يقول: (فالقرآن آمرٌ زاجر، وصامت ناطق)([3])
ثمّ يقول في خطبة أخرى: (ذلكَ القرانُ، فاستنطِقوه ولن ينطق، ولكن أُخبركم عنه ألا أنّ فيه علمُ ما يأتي، والحديثُ عن الماضي، ودواءِ دائِكم ونظمِ ما بينكم)([4]).
هذا وصفه للقران الكريم، فعليٌّ gخريج مدرسة القران الكريم، بل هو القران الناطق، لذا يقول: استنطقوا القران لا ينطق، انا اخبركم بما فيه.
ويصفه أنه صامت ناطق، كيف تجتمع هذه الأضداد فيه؟!
صامت لأنه نزل نص قرآنيّ فيه معانٍ عظيمة، ولا يمكن سرد أخباره ومعانيه إلّا من قِبَل أهله، فكان ناطقا بأهله، وهم النبي والأئمة المعصومون (D)
فالنبي J، هو الذي يُعلّم الناس تعاليم القرآن وأسراره، وهو مدينة العلم وباب هذه المدينة عليٌّg، وعليٌّ مَلَكَ هذه التعاليم، فهو القرآن الناطق، فالقرآن صامت بلحاظ أنه يحتاج الى إمام ناطقٌ يوضّح أسراره ومعانيه.
لذا عندما ينطق بكلماته في نهج البلاغة، كأنّما يمزج كلامه بكلمات الله تبارك وتعالى، وكلامه يأخذ القلوب، ويأسرها، ويفتح الأنفس لاستماعه.
ويصف كذلك النبي الأعظم Jبكلمات يَحتَجّ بها على اصحابه في ذلك الوقت الذي كان يتقدم من لا يستحق عليه، فيقول: (قد عَلِمتُم مَوضِعي مِن رسول الله Jبالقَرابَةِ القَريبَة والمَنزِلَةِ الخَصيصَة، وَضَعَني في حِجرِه، وأنا وَليد يَضُمُّني إلى صدره، ويَكنُفُني في فِراشِه، ويَمُسّني جسدَه، ويشمُّني عَرفَه، وكان يَمضُغُ الشيء ثم يُلقِمنيه، وما وَجد لي كذبةً في قولٍ ولا خَطلَةٍ في فعل، ولقد قَرنَ اللهُ به مِن لَدُن كان فطيما أعظمَ ملك من ملائكته يسلك به طريقَ المكارِم، ومحاسِن أخلاقِ العالِم ليلُه ونهارُه، ولقد كنتُ اتّبعه إتباع الفصيل أثر أُمِّه يرفعُ لي في كلِّ يومٍ مِن أخلاقِه عَلَما، و يأمُرُني بالاقتداء به، و لقد كان يُجاوِرُ في كلِّ سَنةٍ بحِراء فأراه ولا يَراه غَيري، ولم يَجمَعْ بيتٌ واحِدٌ يومَ إذ في الإسلام غير رسول الله Jوخديجةَ أنا ثالِثُهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشُمُّ ريحَ النّبوةِ، و لقد سمِعتُ رَنَّةَ الشيطان حين نَزَل الوحي عليه، فقُلتُ يا رسولَ الله ما هذه الرَنَّة، فقال: هذا الشيطان قد أيس مِن عبادَتِه إنّك تسمعُ ما أسمع و ترى ما أرى إلّا أنّك لستَ بنبيٍّ ولكنَّك لوزير، وإنِّك لعلى خَير)([5])
وكذا ما يرويه الشيخ الكليني بسند معتبر عن علي أمير المؤمنين gحيث يقول في ضمن حديث طويل: (وقَدْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ Jكُلَّ يَوْمٍ دَخْلَةً وَ كُلَّ لَيْلَةٍ دَخْلَةً فَيُخْلِينِي فِيهَا أَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ وَ قَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ Jأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي فَرُبَّمَا كَانَ فِي بَيْتِي يَأْتِينِي- رَسُولُ اللَّهِ Jأَكْثَرُ ذَلِكَ فِي بَيْتِي وَ كُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَنَازِلِهِ أَخْلَانِي وَ أَقَامَ عَنِّي نِسَاءَهُ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهُ غَيْرِي وَ إِذَا أَتَانِي لِلْخَلْوَةِ مَعِي فِي مَنْزِلِي لَمْ تَقُمْ عَنِّي فَاطِمَةُ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَنِيَّ وَ كُنْتُ إِذَا سَأَلْتُهُ أَجَابَنِي وَ إِذَا سَكَتُّ عَنْهُ وَ فَنِيَتْ مَسَائِلِي ابْتَدَأَنِي فَمَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ Jآيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وَ أَمْلَاهَا عَلَيَّ فَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي وَ عَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وَ تَفْسِيرَهَا وَ نَاسِخَهَا وَ مَنْسُوخَهَا وَ مُحْكَمَهَا وَ مُتَشَابِهَهَا وَ خَاصَّهَا وَ عَامَّهَا وَ دَعَا اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَهَا وَ حِفْظَهَا فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَ لَا عِلْماً أَمْلَاهُ عَلَيَّ وَ كَتَبْتُهُ مُنْذُ دَعَا اللَّهَ لِي بِمَا دَعَا وَ مَا تَرَكَ شَيْئاً عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ حَلَالٍ وَ لَا حَرَامٍ وَ لَا أَمْرٍ وَ لَا نَهْيٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ وَ لَا كِتَابٍ مُنْزَلٍ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَّمَنِيهِ وَ حَفِظْتُهُ فَلَمْ أَنْسَ حَرْفاً وَاحِداً ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَ دَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يَمْلَأَ قَلْبِي عِلْماً وَ فَهْماً وَ حُكْماً وَ نُوراً، فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي مُنْذُ دَعَوْتَ اللَّهَ لِي بِمَا دَعَوْتَ لَمْ أَنْسَ شَيْئاً وَ لَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ لَمْ أَكْتُبْهُ أَ فَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ فَقَالَ لَا لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ وَ الْجَهْل)([6])
فإذا هذا البعد الأول من هذه الجاذبية لكلمات أمير المؤمنين gفي نهج البلاغة، لأنّنا نؤمن بأنّ عليًّا gهو خريج مدرسة القران ويصف القران بهذا الوصف الرائع الذي تقدم، وكذلك خريج مدرسة رسول الله J، فكيف ربّاه النبي حتى وصل الى هذه المرحلة: (يسمع ما يسمع، ويرى ما يرى،إلّا أنّه ليس بنبيّ…) وصل الى مرحلة لم يصلها غيرُه، وأسرارُ النبوة كلها مستودعة لديه، فإذا حقا كلامه يجذب القلوب، و يأسر النفوس، ككلام القران، وكلام رسول الله J.
2 / الكَمُّ الكبير مِن أقواله g، وكلماته في نهج البلاغة التي تؤكد على مواساة الطبقات المحرومة، كان يعطيهم الكثير من وقته في السلوك العملي، يعلمنا كيف نتعامل مع الأيتام في كلماته، ويوصي دائما في الطبقات المحرومة، هذه الكلمات المبثوثة في نهج البلاغة تحرك النفوس.
ففي عهده لعامله على مصر مالك الأشتر حيث قد أكد على حقوق ووظائف الطبقات الاجتماعية، والطبقة السابعة والأخيرة هي طبقة المحرومين حتى إذا بَلَغَ الطبقةَ المحرومة من النّاس أفصَحَ عمّا في داخلِه وما عليه من سيرته من التعامل معها، فيوصي عاملَه قائِلا: (الله الله في الطبقةِ السُّفلى مِن الذين لا حيلةَ لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسا و الزمنا (أي الذين اقعدهم التعب اصحاب الأمراض المزمنة الذين لا يستطيعون ان يعملوا ويكسبوا المال) ثم يؤكد عليه و يقول: فلا يشغلنّك عنهم بَطَر، فإنّك لا تُعذر بتضييعك التافه لإحكامِك الكثير المهم، فلا تشخِص همك عنهم (أي لا تصرف)، ولا تصعّر خدّك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون وتحتقره الرجال).
وهو يؤكد gعلى هذه الحقيقة أنّه ما جاع فقيرٌ إلا بما مُتِّع به غنيّ، وأنّ تراكم الثروات يفيد تضييع الحقوق، وعدم العمل بالأحكام الشرعية.
ويُصرّح بقوله في آخر الخطبة الشَّقشَقيّة: (أمّا والذي فَلَقَ الحبَّة وبَرَأ النسمة لولا حضورِ الحاضر وقيام ِالحُجَّة بوجود الناصِر وما أخَذَ اللهُ على العُلماءِ أن لا يُقارّوا على كظة ظالم (أي أن لا يسكتوا على كظّة الظالم وكظّة الظالم كناية عن تُخمته وشبعه بالمال) ولا سَغَبِ مظلومٍ (جوعه وهضم حقّه) لَألقيتُ حبلها على غارِبها ولَسقيتُ آخِرَها بكأسِ أوّلها ولألفيتم دُنياكُم هذه عندي أزهد مِن عفَطَةِ عَنز)([7])
فكيف لا تكون هنالك جاذبية، والناس تتعاطف مع هذه الطبقة المحرومة، وهي محل اعتنائها، ولم تقتصر وصاياه في هذا العهد فقط، بل لم ينفك يؤكد ذلك في كلّ خطبة من خطبه، وموعظة من مواعظه لعمّاله وولاته.
3/ ما زَخَرَ به النهج من أساليب تحرير الإنسان من قيود المادة، والشهوات، والظلمة، والطواغيت، تأسره، وتكبله بقيودها، فتجعله أسيرا لها.
الكل يتوق الى أن ينطلق ويحطم هذه القيود حتى يسير الى الله تبارك وتعالى، وكلمات النهج المبارك وضعت مفاتيح لتحرير الإنسان من هذه القيود التي تأول به الى مصير بائس وشقي.
4/ الاتجاه العرفاني الواضح في كلمات النهج.
أصحابُ القلوبِ الذين يمتلكون فطرة سليمة، وتَرقُّ أعينهم لأدنى موعظة يتلمسون هذه المعاني، وهي واضحة وجلية، ولا تحتاج الى طلاسم.
تلك النفحاتُ العرفانية التي يُثيرُها gفي النهج تتناغم معها الأرواح المتعطشة للمعرفة والحكمة والقرب إلى الله تبارك وتعالى، لتُسقى من الماء الزَلال فترتوي بالعلم والمعرفة، فيبتدأ بحمد الله غاية الحمد حتى يظن أنه لن يتوقف، والى أين سيصل؟!
يُعطي حقَّ الحمد لله تعالى، وبيانِ معرفته وصفاته الجمالية والجلالية، ثُمّ يتحدث عن الملائكة، وبقية مخلوقات الله تعالى، وأحوال وأهوال يوم القيامة، وسَكَراتِ الموت التي تنتظر الإنسان بعد خروجه من هذه الدنيا، وانتهاء دوره فيها.
وهو القائِل في جملة من كلماته: (أنّ هذه القلوبَ تَمّلُ كما تَمّلُ الأبدانَ فابتغوا إليها طَرائِف الحِكَم)([1])، وقوله: (إنّ هذه القلوب أوعِيَة فخَيرها أوعاها)([2])، وقوله: (إنّ للقلوب شهوة وإدباراً وإقبالاً فأتوها مِن قِبَلِ شهوتها وإقبالها فإنّ القلبَ إذا أُكرِهَ عَمى)([3])، وغيرها كثير.
هذه مفاتيح معرفية يعطيها أميرُ المؤمنين g، مِلْؤُها الجاذبية فتَجذِبُ العبدَ الى الله تبارك وتعالى.
5 / الأبعاد الأخلاقية الفَذّة التي رسمها الإمام عليّ gفي نهج البلاغة، فمَن يتصفح فيها يجِدُ نفسَه أمام موسوعة كاملة من محاسِن الأخلاق للتحلي بها، ومساوئها للتخلي عنها.
قال gفي أماكن متفرقة من نهج البلاغة: (وأحذر الغَضَبَ فإنّه جُندٌ عظيم مِن جُنودِ إبليس)، (آلةُ الراسة سَعة الصدر)، (سيئةٌ تسوؤُكَ خَيرٌ عند اللهِ مِن حَسَنةٍ تُعجبكُ)، (ثمرةُ التفريط النّدامَة، وثمرةُ الحَزمِ السّلامة)، (زهدُك في راغِبٍ فيك نُقصان حظ ورغبتُك في زاهِدٍ فيك ذُلُّ نَفس)، (مَن كَثَر خطأُه قَلَّ حياؤه ومن قَلَّ حياؤه قلَّ ورعُه)، (الحِلمُ غِطاءٌ ساتِر، والعقلُ حسامٌ قاطع فاستر خلَلَ خُلقَك بحِلمِك وقاتِل هَواكَ بعقلِك)، (لا تَظُنَّ بكلمةٍ خرجتْ من أحدٍ سوء، وأنت تجدُ لها في الخير محتَمَلاً).
([2]) نهج البلاغة: الحكمة: 143.
([3]) نهج البلاغة: الحكمة 190.
([2]) نهج البلاغة: خطبة رقم 50
([3]) نفس المصدر: خطبة رقم 181
([4]) نفس المصدر: خطبة رقم 171